الخميس، 8 مايو 2008

قصة للدكتور/نبيل فاروق (لوعلمتم الغيب)


* لو علمتم الغيب * انطلق حسن غنيم بسيارته، في ذلك الطريق المظلم، الذي يربط قريته بالطريق الرئيسي، وهو يهمهم بكلمات ساخطة غاضبة، ويعقد حاجبيه في توتر وسخطكان قد خسر منذ قليل، واحدة من الصفقات، التي بنى أحلامه وآماله عليهاولم تكن هذه أول مرة يخسر فيها صفقةولا أول مرة يغضب على هذا النحوكان بطبعه شخصية ساخطة، ناقمة، متوترة، تكره كل ما يمكن أن يمسها بأدنى سوء، حتى ولو كان هذا السوء من وجهة نظرها فحسب
وفي حنق، هتف حسن: لماذا لا أصبح مليونيرا لماذا لا أصل إلى ما وصل إليه غيري؟لم يكد ينطق عبارته هذه، حتى أضيئت الدنيا كلها أمامه بغتة.. في البداية تصور إنها سيارة قادمة، أو شيء ينفجر، ثم لم يلبث أن انتبه إلى فجوة عجيبة، تكونت في الهواءوخلفها كان المشهد مذهلاكان هناك طريق ممهد، وآلات طائرة، وأشياء أخرى مبهرة، لم يفهم ماهيتها، وإن أدرك على الفور أنها نتاج تكنولوجيا مذهلة، لم تبلغها حتى الولايات المتحدة الأمريكية نفسهاووسط كل هذا، كان هناك رجلرجل يرتدي ثيابا عجيبة، ويمسك بيده شيئا يشبه الجريدة.. وفي ذعر، حدق كل من حسن والرجل في وجه الآخر، قبل أن يضغط حسن فرامل سيارته، بكل ما يملك من قوة، ويتراجع الرجل في حدة ورعبثم دوى مايشبه الانفجار ..
انفجار مكتوم، تردد في أذني حسن، قبل أن تندفع عشرات الأشياء، لترتطم بمقدمة السيارة، ثم يهدأ كل شيء، ويعود الظلام إلى المكانولثوان، ظل حسن داخل سيارته، ذاهل العينين، شاحب الوجه، ثم لم يلبث أن هتف: ماهذا بالضبطاستجمع شجاعته، وغادر السيارة، وتطلع أمامه في توتر، حيث كانت الفجوة، ثم التقت إلى مقدمة سيارته وزجاجها، وقد تناثرت فوقها أشياء شتى، نصفها بالغ الغرابة بالنسبة إليهولكن أكثر ما جذب انتباهه تلك الجريدةوفي حذر، مد يده ليلتقطهاكانت جريدة الأهرام المصرية، ولكنها مطبوعة على شيء يشبه الكاوتشوك، له ملمس رخو مريح، وكل الصور والرسوم بها مجسمة، مطبوعة بأسلوب عجيب، حتى لتبدو حية متحركةحتى الإعلانات كانت مدهشةوبالذات إعلانات العطور
كل إعلان كان يفوح برائحة العطر المعلن عنهوبسرعة، قلب حسن الجريدة، ليقرأ تاريخ صدورهاثم شهق في انبهاركان تاريخ صدور الجريدة هو الثالث من نوفمبر، عام الفين وثلاثين*******هتف حسن بكل الانفعال في أعماقه: رباه.. لقد خشيت مجرد التفكير في هذا، ولكنها حقيقة.. حقيقة تشبه ما نشاهده في أفلام الخيال العلمي.. لقد انفتحت فجوة بيني وبين المستقبل.. فجوة قذفت كل هذه الأشياء بين يدي، ثم تلاشت
كان جسده يرتجف في انفعال وانبهار، ولكنه أسرع يجمع كل تلك الأشياء، التي قذفتها فجوة المستقبل، وانطلق إلى منزله في القاهرةوفي حجرته، راح يتلهم تلك الجريدة التهاماقرأ كل الأخبار، والمقالات.. وحتى الإعلاناتوتضاعف انبهاره أكثر وأكثركان يجوب المستقبل دون أن يبارح مكانهوبدا له هذا المستقبل مبهرا، حتى أنه هتف: ياللروعة.. لن يصدق مخلوق واحد ما حدث لي.. إنها معجزةقلب الصفحة الأخيرة للجريدة المستقبلية، وتطلع في إهتمام إلى صورة لشيخ وقور، بدت له مألوفة إلى حد كبير، فتساءل عن اسم صاحبها، ووفجأة، وثب من مكانه، وهو يطلق شهقة قوية
وأسفل الصورة، قرأ بحروف مضيئة عبارة تقول: توفى أمس المليونير المعروف حسن غنيم، وسيقام العزاء في قصره، في مصر الجديدة*******إنه هو …إنه يقرا خبر وفاتهارتجف جسده، وألقى الجريدة جانبا، وراح يلهث في انفعال
ليس من السهل ابدا أن يقرأ المرء خبر وفاته، حتى ولو كانت هذه الوفاة ستحدث بعد أكثر من خمس وثلاثين عاماثم فجأة انتبه إلى أمور آخرىلقد وصفته الجريدة بإنه مليونير معروف، يمتلك قصرا في مصر الجديدةلقد نجح إذنأو سينجح..لقد عرف هذا الآن..راح يطلق صيحات ظفر وسعادة، وهو يقرأ الخبر مرات ومرات، ثم لم يلبث أن ألقى الجريدة جانبا، وألقى جسده على فراشه، وابتسامة واسعة تلتهم وجهه كلهإنه سيصبح مليونيرا..هكذا يقول المستقبل..
والأعظم إنه يعرف بالتحديد تاريخ وفاتهالثالث من نوفمبر، عالم ألفين وثلاثينإنه أول مخلوق في العالم، يعرف تاريخ وفاته بالتحديداعتدل جالسا، وقال في حزم: لا خوف بعد اليوم إذن.. الموت بعيد عني تماما ..بعيد بأكثر من خمسة وثلاثين عاماوفي اليوم التالي، بدأ حسن صفقاته الناجحةكان واثقا من النتائج، بعد ما قرأه في جريدة المستقبلولأول مرة، ربح صفقة كبيرةثم ثانية ..وثالثة ..
ورابعة ...وطوال خمسة أعوام، لم يخسر حسن صفقة واحدة، وصار ثريا معروفاثم اشترى ذلك القصر في مصر الجديدةاشتراه وأقام فيه مع أشقائه وأمهومع الجريدةلم يتخلص منها قط، بل كان يختلي بنفسه في حجرته أحيانا، ويقرؤها في سعادة، وكأنما لم يطالعها قط من قبلوامتلأت نفسه بالثقةإنه سيموت مليونيرا ومعروفاوفي موعد محدود ..
*******هكذا أصبح حسن غنيم شديد الجرأة والشجاعةوذات يوم، كان يقود سيارته الجديدة، وإلى جواره خطيبته، التي شعرت بالخوف من تلك السرعة الفائقة، التي يقود بها فقالت: حسن ..أرجوك.. لا تقد السيارة هكذاأطلق ضحكة عالية وهتف: لا تخافي ..لن نموت الآنقالت في ضراعة: أرجوك يا حسن
قهقه ضاحكا مرة آخرى، وزاد من سرعة السيارة أكثر وأكثر بلا خوفوفجأة، ظهرت تلك السيارة الضخمةوصرخت خطيبته: احترس يا حسنوحاول هو أن يضغط فرامل السيارةولكن الاصطدام حدثوأظلم كل شيء من حوله*******
لم يدر كم ظل فاقد الوعي، ولكنه استعاد وعيه مع آلام رهيبة، تسري في جسده كله، فحاول أن يتحرك، أو يضع يده على عظامه المتألمة، ولكنه عجز عن هذا تماماثم سمع صوتا إلى جواره، يقول: خطيبته لقيت مصرعها على الفور، أما هو فما يزال على قيد الحياةكانت الآلام عنيفة، ولكنه أدرك ان الذي يتحدث هو طبيبه الخاص، وحاول ان يشرح له آلامه وعذابه، ولكنه لم يستطع النطق، في حين سمع صوت شقيقه يقول: وكيف حاله الآن؟بدا له صوت طبيبه مفعما بالأسى، وهو يقول: إنه اشبه بالموتى فهو في غيبوبة تامة، لا يستطيع الحركة أو النطقسأله شقيقه في هلع : وهل تعتقد إنه سيشفى؟أجابه الطبيب في مرارة: إنه حالة مجهولة، لم يشف منها شخص قط.. الأرجح أنه سيقضي ما بقى له من العمر، في هذه الحالة
صرخ حسن: ولكنني حي ..أشعر وأسمع.. أنا اسمعكماولكن صرخته هذه لم تتجاوز أعماقهلم يسمعه أحدهما ..أو حتى يشعر به ..وتصاعدت الآلام ..واشتد العذاب ..وهتف حسن لنفسه: ألن ينتهي هذا العذاب ابدا.. رباه ..كم أتمنى الموت، لينتهي العذاب والآلاملم يكد يفكر في هذا، حتى أنطلقت صرخة في أعماقهصرخة تموج بالرعب والهلعلا.. لن ينتهي العذاب
هو وحده يعلم هذاأمامه ثلاثون عاما أخرى من العذابثلاثون عاما حتى يموتوانهارت أعماقه في يأسلقد فقد حتى الأمل..الأمل في أن ينتهي عذابه بالموتوللمرة الثالثة، تردد في أعماقه صرخة مريرةليتني لم أعلم..ليتني لم أعلم..وظلت هذه الصرخة تتردد، وتضاعف العذاب، طوال ثلاثين عاما أخرى
وبلا توقف..

*******-د.نبيـل فـاروق-

ليست هناك تعليقات: